يعيشون كعائلة واحدة.. دار رعاية تعيد الحياة والأمل لكبار السن في المغرب

يعيشون كعائلة واحدة.. دار رعاية تعيد الحياة والأمل لكبار السن في المغرب
كبار السن داخل دار الرعاية

تواصل السعدية صنيبة، المرأة المغربية التي اشتهرت بلقب "أم المسنين"، قيادة عمل إنساني فريد في دار الرعاية بمدينة سيدي علال البحراوي، شمال غرب المغرب، حيث تسعى مع فريقها إلى رعاية المسنين وإعادة الحياة لقلوب أنهكتها الشيخوخة والعزلة، وسط تحديات يومية تتعلق بالتمويل والصحة والإجراءات الإدارية.

تعكس دار المسنين مشهداً مؤثراً من قصص إنسانية متشابكة بين الحنين والوجع والأمل، داخل أروقة المكان، تجلس ميلودة الزكري، المعروفة بين الجميع باسم "أمي ميلودة"، امرأة في السبعين من عمرها تحمل في عينيها بريق الرضا رغم ماضيها القاسي، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الأحد. 

تروي بحنين: "تزوجت صغيرة ولم أنجب، وبعد وفاة زوجي وجدت نفسي وحيدة بلا عائلة، فكانت الدار ملجئي الأخير".

ورغم وحدتها، لا ترى ميلودة المكان سجناً، بل بيتاً دافئاً، تقول بابتسامة: "الناس يظنون أن دار المسنين عزلة، لكنها لي حياة ثانية، نضحك ونتحدث ونعيش كعائلة صغيرة".

وبجوارها، تحكي عائشة شليحات، القادمة من خنيفرة، قصة عمرها الطويل في الكفاح، تقول بصوت متعب لكنه مطمئن: "عملت سنوات في خدمة عائلة اعتبرتها أهلي، لكن مع تقدّم العمر لم أعد قادرة على العمل، فقررت بنفسي المجيء إلى الدار حتى لا أكون عبئاً على أحد".

وتضيف بابتسامة شاحبة: "الراحة ليست في المكان، بل في القلوب التي حولك، وهنا وجدت قلوباً رحيمة أدفأ من البيوت".

يوميات التضحية والرعاية

تتنقل السعدية صنيبة بين الغرف وهي تبتسم للنزلاء، تحمل في ملامحها مزيجاً من الحنان والحزم، تروي كيف بدأ شغفها بالعمل الخيري: "ورثت حب الخير من والدتي، وكان مشهد المسنين المتخلى عنهم في الشوارع هو ما دفعني لتأسيس هذا المركز، ومنذ ذلك اليوم، أصبحت حياتي مرتبطة بهم".

تقول بفخر ممزوج بالألم: "كل واحد منهم يحمل قصة موجعة، مثل أب التقى بابنه بعد 38 سنة من الفراق، أو رجل آخر اجتمع بأسرته بعد 34 سنة لكنه توفي بعد شهر فقط، هذه القصص تجعلني أطرح دوماً سؤالاً واحداً: لماذا نتخلى عن والدينا؟".

وتوضح أن أغلب النزلاء يعانون أمراضاً مزمنة كالزهايمر والسكري، ما يتطلب متابعة دقيقة ورعاية مستمرة. 

تضيف: "نرافقهم للمستشفيات ونوفر الأدوية رغم ضعف الموارد، لكن الصعوبات المادية لا تنتهي. التعامل معهم يحتاج إلى قلب صبور لأنهم في مشاعرهم مثل الأطفال".

ورغم كل الجهد، ترى السعدية أن المرأة العاملة في مجال الرعاية تواجه عراقيل مضاعفة، قائلة: "في مجتمعنا لا تزال النظرة الذكورية حاضرة، وكل امرأة تصل إلى موقع مسؤولية تكون قد ناضلت كثيراً لتنتزع مكانها".

الشيخوخة وسياسات غائبة

تُظهر البيانات الرسمية المغربية اتساع رقعة الشيخوخة في البلاد، إذ ارتفعت نسبة من تجاوزوا 60 عاماً من 9.4% عام 2014 إلى 13.8% عام 2024، أي ما يعادل نحو 5 ملايين شخص، ويتوقع أن يتضاعف الرقم بحلول عام 2050 ليبلغ أكثر من 10 ملايين، أي نحو ربع السكان.

لكن هذا التحول الديموغرافي لم يقابله -وفق تقارير المندوبية السامية للتخطيط وصندوق الأمم المتحدة للسكان- بناء سياسة اجتماعية قوية لحماية كبار السن.

تقول السعدية: "الدعم الذي نحصل عليه يغطي بالكاد نصف الاحتياجات، فالأدوية والحفاضات والنقل الطبي تكلف مبالغ كبيرة، وهناك نزلاء بلا بطاقات هوية ما يعقّد علاجهم أو حتى دفنهم عند الوفاة. لدينا حالتان توفيتا منذ شهور وما زالت الإجراءات معلقة، وهذا أمر موجع للغاية".

شيخوخة في شمال إفريقيا

تتجاوز أزمة الشيخوخة حدود المغرب لتشمل دول شمال إفريقيا كافة، مثل الجزائر وليبيا وموريتانيا، حيث يعاني كبار السن من غياب مراكز الرعاية وضعف أنظمة التقاعد والتغطية الصحية. 

وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن النساء يشكلن الأغلبية بين المسنين، ما يجعلهن أكثر عرضة للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية.

وفي ظل هذه الأوضاع، تبرز مبادرات فردية مثل مبادرة السعدية صنيبة كنماذج للمقاومة الإنسانية في وجه الإهمال المؤسسي، إذ تؤمن بأن الرعاية ليست عملاً خيرياً فحسب بل واجب وطني وأخلاقي.

نداء إنساني أخير

تختم السعدية حديثها بعبارة مؤثرة تختصر فلسفتها في الحياة: "لا يمكن أن نحتفل بالمسنين يوماً واحداً في السنة، لأنهم ليسوا رمزاً للذكرى، بل هم الأب والأم والجذر الذي لا تموت جذوره، واجبنا أن نمنحهم الكرامة قبل الدواء، والدفء قبل الغطاء".

بهذا الإصرار الإنساني، تتحول دار المسنين في سيدي علال البحراوي إلى أكثر من مجرد مأوى، إنها شهادة حية على أن الرحمة ما زالت قادرة على مقاومة العزلة، وأن في المغرب نساء مثل السعدية صنيبة يثبتن أن الإنسانية لا تُختصر في الكلمات بل تُصنع بالأفعال.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية